-١-
سببٌ أساسيٌّ، للتشييع الكبير، لجثمان الراحل – له الرحمة والمغفرة – الشيخ الزبير أحمد الحسن، هو ما حدث قبل وفاته بـ٢٤ ساعة فقط..!!
فض إفطار (عشرات) الإسلاميين بقُوات الشرطة، والاعتداء على المُصلين بالبمبان، هو ما أخرج (الآلاف) في تشييع الزبير .
في السِّياسَة السُّودانية، الحكومات هي من تقوم بالترويج للمُعارضين، وتُجنِّد لهم المُناصرين والمُؤيِّدين، وتُوفِّر لهم المواد الخام، من أخطاء وتجاوزات، للاستثمار السياسي.
كثيرٌ من الإسلاميين، كانوا في حالة إحباطٍ من حصاد ومآل التجربة السابقة، وعدم فاعلية وعزوف عن النشاط السياسي.
فشل الحكومة الانتقالية المنظور والمعاش، وبُؤس أدائها، ومُحاولات قمع الأصوات المحدودة التي خرجت للعلن، أوجد دافعيةً وحماساً لدى لتلك المجموعات لتأكيد الوجود (نحن هنا)!
-٢-
لو قُدِّر لأهل هِمّة وعزمٍ، القيام بدراسة عميقة، لأسباب سُقُوط نظام الإنقاذ، ذلك السُّقُوط الداوي المُذل، لاكتشفوا عاملاً مركزياً أسهم في ما حدث بتلك الصورة الدراماتيكية.. وهو عامل الاستفزاز، مقروناً بالاستعلاء بالسُّلطة والاستبداد بأدواتها.
افتقد كثير من القيادات الإنقاذية حساسية التعامُل مع الجمهور، بلغة تنم عن التواضُع والاحترام.
فخرجت من قواميسها عباراتٌ وجُملٌ وتعليقاتٌ كانت صادمة وجارحة ومُستفزّة للشعور العام.
وصل الاستفزاز مَدَاهُ الأقصى، بالأفعال لا الأقوال، حينما اندلعت الاحتجاجات في ديسمبر ، وكان القمع والبطش واقتحام المنازل والاعتداء على كبار السن بالسياط.
حينذاك تحوّلت التظاهرات من احتجاجات مطلبية إلى ثورة مجتمعية مُكتملة العناصر، حاضنتها الأسر السودانية..!!
مشهد ذلك الشيخ وهو يجلد بالسياط في أيام الثورة ، يعادل اليوم مشهد إطلاق البمبان على المصلين الصائمين..!
-٣-
الآن تُريد الحكومة الانتقالية أن تمضي بلا وعي تاريخي، وهدى سياسي، على ذات الطريق:
المُبالغة في الاستفزاز والدفع بالخصوم إلى ركن قصي، دُون وضع حساب لردود الأفعال.
وبهذا السلوك الاستفزازي، القائم على القمع والمنع والمُبالغة في التضييق، سيكتسب المُعتدى عليهم حماسة المقاومة وتعاطف الجمهور.
-٤-
لأكثر من مرة، أوردت هذه القصة التي كُنت شَاهِدَاً عليها:
في مُنتصف التسعينيات، كنتُ أؤدِّي صلاة الظهر بأحد المساجد الأم درمانية، وعقب الصلاة تم القبض على لصٍّ قام بسرقة حذاء.
تكالب المصلون على اللص بالتوبيخ، وبعضهم اعتدى عليه بالضرب المُخفَّف.
تطرَّف أحدهم وخلع حذاءه الثقيل لضرب اللص على رأسه.
كانت المُفاجأة بالنسبة لي، أنّ المُصلِّين تركوا اللص وتوجّهوا بغضبهم لصاحب الحذاء المرفوع، لإسرافه في العقاب.
استغلَّ اللص انشغال الناس بلؤم صاحب الحذاء وحصاره بالمواعظ، فولَّى اللص هارباً من بين أيدي المُصلِّين.
المُصلُّون في ذلك المسجد يمتلكون مقياس عدل فطري، يُحدِّد لهم نوع الذنب ومدى العُقُوبة، ويُشير إلى أنّ الظُّلم كتجاوز أعظم فداحة من السرقة كسُلُوكٍ مُنحرفٍ.
-٥-
في السودان إذا دخلتَ في مُشاجرةٍ مع أيِّ شخصٍ في حضور آخرين، وأسرفتَ في الإساءة إليه، سرعان ما ينقلب عليك الحاضرون، مُنحازين للطرف المُسَاءِ إليه، حتّى لو كُنتَ صَاحب حَق.
قلت لبعض الأصدقاء:
المزاج السوداني العام، مُناهضٌ للتطرُّف في المواقف والتعبير عنها، ومُناهضٌ للظلم والجُور بالأفعال والأقوال، وله حساسيَّةٌ عاليةٌ في التقاط عدوى الاستفزاز والإساءة.
حينما تُوجَّه إساءةٌ أو اتِّهامٌ لفئة حصرية بين مجموعة كُليَّة يجمع بينها فعلٌ أو موقفٌ أو مشاعر مُشتركة، فإنّ الإساءة أو الاتهام يصل إلى بريد الجميع، فتشتعل نوبات العطاس.
– أخيراً –
السِّياسيون في السُّودان ،مثل ملوك البربون في فرنسا ،لا يتعلمون شيئًا ولا ينسون شيئًا..!
لا يتعلّمون من أخطائهم، ولا من أخطاء مُنافسيهم، فهم صمٌّ بكمٌّ عميٌ لا يعقلون، يُلدغون من الجحر الواحد أكثر من مَرّتين..!!