ولأن الشعور بالآخرين حاسة سادسة لا يمتلكها إلا الأنقياء، لذلك كان ومازال الشاعر الدكتور علي كوباني هو احساس عميق للآخر بالوجع تجاه فقده ، واحتفظ كوباني بحضوره الطاغي بين الناس حتى بعد رحيله ، سيرة عطرة ومواقف جميلة وذكريات طيبة بدأ الناس في سردها بعد بعد موته ، كلها تؤكد ان كوباني كان رجلا من طراز فريد وعملة نادرة وشخصية لن يكررها الزمان والشاعر الدكتور كوباني ، وأقدم لقب الشعر على الطب بالرغم من ان كوباني رجل وضع بصمة عميقة ومؤثرة في مجال الطب العدلي السوداني ، وكان له باع طويل في هذا المجال الذي حلق به الى دول اخرى ، هذه المهنة التي تحتاج الى شخصية تتمتع بأخلاق عالية وضمير حي متقد ، فله تاريخ ناصع البياض وشهدت له المواقف أنه أبلى بلا حسنا في هذا المجال ، لكن تجدني اقدم لقب الشاعر لان كوباني تميز بإنسانية فريدة وشعور بالآخر قل ماتجده عند الكثيرين ، ومشاعره المتوهجة وإحساسه العالي والمرهف ووطنيته الصادقة ، جعلته صديق الجميع فالرجل كان مجموعة انسان ، لأنه كان شعلة من العطاء ، المستمر الذي لم يستطع المرض ان يجفف منابعه فظل كوباني بحر ومورد عذب شديد الزحام .
بدأت معرفتي به في العام ٢٠١٠ في تدشين أغنية (غلطتك )التي جمعتني بالأستاذة الصديقة اسرار بابكر التي قدمت الأغنية لاول مرة حصريا على قناة الشروق عبر برنامج سجل من صالة سبارك سيتي حضره لفيف من اهل الفن والصحافة والاعلام وكان الشاعر الدكتور علي كوباني والأستاذ الاذاعي المتمكن فريد عبد الوهاب على المنصة تمت استضافتهما لسماع رأيهما في الاغنيه بحكم خبرتهما فقال كوباني كلمات أغنية غلطتك تذكرني بأغنية نور العين لمحمد وردي الذي قال ( يانور العين انت وينك وين ) بيما قالت صباح ( مجبور أفارق سكتك ماغلطتك ) وأردف هذا هو السهل الممتنع الذي يجعل للأغنية السودانية طعم ونكهة خاصة بها ،هذه الكلمات كان لها اثرا كبيراً على نفسي وحفرت عميقاً في دواخلي وبعد انتهاء التسجيل شكرته على هذه الكلمات قال لي (نعم انتي صحفية مميزة لكن انا معجب بك كشاعرة أكثر ) فقلت له انت فخرنا في كل المجالات في الشعر والطب وكسفير للإنسانية وأيقونة للمحبة ومن هنا بدأت معرفتي بشخصية تعد قيمة مضافة ، ومكسب وربح كبير تشعر بالخسارة الحقيقة لفقده ، لأن رحيله هو دفن وقبر لكثير من القيم والمعاني النادرة ، فالرجل ظل يحمل ابتسامة يشهر بها في وجه المرض ويسخر بها من الأقدار التي حاولت ان تحول بينه وبين العامة من الناس ، ولكن هزمها كوباني بضحكاته وقفشاته ، وتشبثه بالحياة ، وتمسكه بالتواصل حتى آخر نفس.
والموت عندما يغيب كوباني ، يفقد الطب العدلي ، طبيبا نادراً ومختلفاً ، لأن كوباني ليس مجرد طبيب انما لكونه. ضمير ، قد لا تجد منه نسخة ثانية ، وبفقده تفقد الكلمة بهجتها ورونقها ويغشى سهول الشعر المحل والجفاف وتذبل الورود بغياب شاعر ، كلماته شرّحت القلوب لتشرحها وتبهجها وتدخل فيها السعادة وفقد السودان برحيله أحد الابناء الذين غمروا حياتنا علماً و شعراً وسماحة ، الرجل الثورة الذي رفع أشرعتها التي استفاقت على قسوة الريح ، حمل حلما بداخله وشهدها ميلاداً وربيعا اخضرا، وظل يحمل مواعين العشم ليسقي زرعها وبات يهش على كل متسلق وسارق يمد يده خلسة ليسرق ثمارها ، حروف تلامس قلوب الصادقين كل صباح لتجدد فيهم العشم كلون الشمس عندما يشرق على ارض النفاق ، وهو الذي يعلم ان كل القصص التي بدأت ، انتهت بقصص أخرى ، وبقي على شواهدها صوت يعلو كلما خفت البريق ، برحيل كوباني لابد ان تتجدد المطالبة بإعادة البصمة إلى مجال الطب العدلي وتحقيق العدالة ، ارقد بسلام سوف يتحقق حلمك وحلم كل سوداني شريف يحلم بوطن معافى تتوق نفسه للتغيير الحقيقي ، سيحدث كل ذلك ولو طال الطريق .
طيف أخير :
كل من عليها فان، ولكنّ العمل الطيب يبقى للأبد.
الجريدة