*توطئة:*
هذه إستشارة سياسية نبذلها بكل أريحية لقادتنا الذين نحبهم ونتمنى لهم الخير، السداد والرشد، ففي رشدهم خيرٌ للبلاد والعباد وهذا أغلى ما يمكن أن يتمناه كل سوداني وطني غيور على وطنه وأمته، وقد ظللنا نكتب من أجل هذه الغاية منذ أيام الدراسة الجامعية نهاية عقد الثمانينات ومطلع عقد التسعينات وفي مرحلة الماجستير والدكتوراة ودراساتنا المتخصصة فوق الدكتوراة، وكل ما حصلناه من علم ومعرفة فهي من أجل عيون هذا الوطن العظيم وشعبه الكريم.
*إلى الفريق أول عبد الفتاح البرهان:*
أتمنى على سعادة الفريق أول البرهان أن يسمع منا؛ فإن سمع فقد سمع لناصح أمين يدعو له من قلبه أن يهديه الله سُبُل الرشاد، ففي عنق الرجل منذ أبريل 2019م، سلامة هذا الوطن النبيل، وهذه الأمة التقية النقية وإن بدأ على عيونها التعب، هذه الأمة التي أرزت إليها ما تبقت من خصال الخير والحق والجمال كما تأرز الحية إلى جحرها.
في إعتقادي أن السيد القائد مدرك؛ أنه ومنذ أول يوم تسلم فيه السلطة في البلاد فقد أمسك بوطن تتقاذفة أمواج الإستراتيجيات الدولية وتعلوا فيه لغة الأطماع الداخلية والداخلية، وتتصارع فيه جبهات ظاهرة وأخرى مستترة، والقليلة الظاهرة منها أرحم بالوطن من تلك الكثيرة المستترة.
أننا نعلم أن الجبهات كثيرة ومتعددة ومتنوعة منها جبهة الإستخبارات العالمية التي تستغل المنظمات الدولية مثل “الأمم المتحدة”، ومؤسساتها مثل “البنك الدولي” والمنظمات الأقليمية مثل “الإتحاد الأفريقي والإيقاد” الحركات المسلحة التي جعلوها تتناسل مثل الورم السرطاني، ليستخدموا التي وقعت على السلام لتنخر البلاد من الداخل وتتمترس خلف مكتسباتها الظلوم، فتأخذ بإسم السلام كل ما تبقى من مقدرات الوطن المنهك أصلاً لتبني قدراتها العسكرية إستعداداً لحرب إستنزاف طويلة لا تنتهي إلا بإستسلام السودان كله أو فصل دار فور منه ليسهُل على من بنوهم أن يهدموهم كما بنوهم، وليستخدموا الحركات المسلحة غير الموقعة على السلام كرت ضغط في الوقت الذي يحتاجونها فيه.
ويستخدموا عملاء الداخل والخارج كروت ضغط رابحة، وهم يضمون بين طياتهم دول وأفراد، سودانيين وغير سودانيين، داخل الوطن وخارجه، منهم من يعلم؛ ويعلم أنه يعلم ويقبض ثمن خدماته، ومنهم من لا يعلم ولا يعلم أنه لا يعلم وهذا المغفل النافع، ومنهم من يشتروه بالمال، ومنهم من يشتروه الوعود البراقة ومنهم من يشتروه بطموحاته وأطماعة.
كم هي الوعود التي وعدوا بها البشير؟، وكم وعد من هذه الوعود أوفوا به؟، كم هي الوعود التي وعدوا بها قوش؟، وكم وعد من هذه الوعود أوفوا به؟، كم هي الوعود التي وعدوا بها سعادة الفريق أول البرهان نفسه؟ وكم وعد من هذه الوعود أوفوا به؟، إنني أجزم أنهم لو أوفوا إليه بأي وعد وعوده إياه إنما أفوا به حتى يورطوه أكثر ويتمكنوا من قيادته لتحقيق أهدافهم بشكل أيسر.
*موقف الجيش وقائده من السلطة:*
كل المراقبين يعلمون أن الجيش حينما إستلم السلطة يوم 11/4/2019م، لم يكن يريد أن يقيم سلطة عسكرية على أنقاض سلطة عسكرية آفلة خرج عليها الشعب السوداني بأكمله في إحتجاجات تكاد تكون هي الأضخم في تاريخ السودان، حتى أصبح لسان حال الرئيس المشير عمر حسن البشير كحال الرئيس البرازيلي لولا داسلفا الذي بنى مجد البرازيل الحالي بعد عام 2003م، وحرم الفاسدين سارقي قوت الشعوب من تحويل مقدرات الدولة البرازيلية إلى مصالحهم الخاصة، فألبست مافيا الفساد البرازيلية خلافاتهم السياسية معه ثوب القانون وسجنوه بها بعد نهاية دورته الثانية، والتي رفض الرئيس بعدها تعديل الدستور ليفوز بدورة ثالثة مُفسحاً المجال لغيره.
*الأخطاء التي وقع فيها المجلس العسكري الأنتقالي:*
بسبب الخداع الإستراتيجي وقع المجلس العسكري الإنتقالي في أخطأ جوهرية، الخطأ الأول الذي أوقعته فيه الإستخبارات العالمية هو أنهم أوعزوا لعملائهم في الداخل ليتعنتوا في قبول مشاركة السواد الأعظم من الشعب السوداني في حكومة ثورته، مما حتم على المجلس العسكري تسيير دفة الدولة منفرداً من يوم 13/4/2019م وحتى 20/8/2019م، وبعد إنتظار لتكوين حكومة إنتقالية غير حزبية من كفاءات وطنية مستقلة لمدة عام واحد أو عام ونصف تمثل السواد الأعظم من الشعب السوداني، كون المجلس العسكري حكومة حزبية فاسدة عميلة حاقدة لترتكب بذلك أول أخطائها الإستراتيحية القاتلة، مما دفعها في 25 أكتوبر 2021م لتصيح هذا الخطأ الإستراتيجي بإقالة الحكومة العميلة لكن بعد الدمار الشامل الذي أحدثته في جميع مناخي الحياة في الدولة السودانية.
*الدمار الذي أحدثته الحكومة الحزبية المقالة:*
تجاوز المجلس العسكري كل الشعب السوداني، وكون مع “قحط” المعزولة حكومة حزبية يسارية، أغلبية وزرائها عملاء مخابرات عالمية ويحملون جوازات أجنبية، حيث جلب رئيس وزرائها بعثة أمَمية ووضع السودان بأكمله تحت ولايتها، ودفع تعويضات من أجل تجريم الحكومة السودانية السابقة، بجريرة برأها منها القضاء الأمريكي، وكشفوا أسرار صناعاتنا الدفاعية لسادتهم.
إستطاعت الإستخبارات الأجنبية من خلال عملائهم المتنوعين أن يدمروا الإقتصاد السوداني، ويوقفوا عجلة الإنتاج ويخربوا كل ما يمكن تخربيه من طرق وجسور وأعمدة إنارة ومدارس وجامعات ومشاريع زراعية وصناعية وقد وصل دمارهم إلى النسيج الإجتماعي بل دمروا أهم الطبقات الإجتماعية وهي طبقة الشباب الذين يمثلون السواد الأعظم من الشعب السوداني؛ دمروه فكرياً ودمروا مدارسه وجامعاته، دمروه بالعطالة والمخدرات والسهر، بل من خلال التقتيل والتشريد من أجل تحميل قوات الشرطة والقوات المسلحة جريمة قتل شبابنا الواعد فيوقعوا العداوة والبغضاء بين الشعب وقواته الأمنيه من أجل أن يهدموها ويهدموا الوطن بأكمله على رؤوس أهله.
*آخر المحاولات:*
آخر محاولاتهم هي تفصيل الإتفاق الإطاري الذي هندسه السفراء الأجانب ودعمه المبعوثين الستة من أجل أن يوحوا إلى الفريق البرهان أن عودة السودان إلى “حضن” المجتمع الدولي وعودة الدعم الدولي إليه تمر من خلال الإتفاق الإطاري الذي لا ينتظرون من ورائه إلا عودة عملائهم إلى سدة الحكم ليواصلوا عملية هدم السودان التي قطعوا فيها شوطاً مقدراً قبل 25 أكتوبر 2021م، وهم يعنون بالعودة إلى مسار الإنتقال الديمقراطي، العودة إلى هدم السودان وتدمير إقتصادة ومقدراته وبنيته التحتية وكل ما يُمكِن أن يمكّْنه من التقدم والإزدهار والنهضة وإستغلال موارده الطبيعية الهائلة التي لا يريدون له أن يستفيد منها.
*ضرب التماسك الأمني الداخلي في السودان:*
لقد ظل هؤلاء الأوقاد يعملون منذ أول يوم أسقطوا فيه حكومة المشير عمر البشير على ضرب تماسك القوات الأمنية في البلاد، ولكن الإستراتيجيين العسكريين فوتوا الفرصة عليهم بإسناد منصب نائب رئيس المجلس العسكري للفريق أول “حميدتي” وقد كان هو الخاصرة الضعيفة التي كان يمكن أن يكونوا منها قوة عسكرية لعملائهم، لو أنهم أستطاعوا أن يكسبوه لفريقهم وهم يعلمون أنهم لن يستطيعوا أن يهزموا به الجيش السوداني العريق، ولكنهم على الأقل يكونوا قد تخلصوا من أحد خصميهم وأضعفوا قدرة السودان القتالية وأحدثوا شرخاً داخلياً في المجتمع تصعب معالجته.
*قوات الدعم السريع:*
الآن ومن خلال الإتفاق الإطارئ يريدون أن يحققوا ما فشلوا فيه في المرة السابقة وهو فك الإرتباط بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع، وهذا ما يتطلب قدراً كبيراً من حكمة في معالجته، وذلك من خلال الجلوس مع الفريق حميدتي وشقيقه عبد الرحيم والإتفاق معهم على ضمانات معقولة تحفظ لهم بعض أهم مكاسبهم التي حققوها في أيام المشير عمر البشير وقبِل بها المجلس العسكري مرغماً، وذلك حتى لا يستخدم أعداء السودان قوات الدعم السريع في هدم البلاد.
*قوات الحركات المسلحة:*
في تقديري أن القوات المسلحة قبلت بسلام مع الحركات المسلحة شبيه بالسلام المفروض بقوة السلاح، وقد قبلت به سحباً لهذه القوة من تحت يد أعداء هذا الوطن الخبثاء، سلام فرضت فيه الحركات المسلحة شروطها كاملة ولم يكن للحكومة نصيب أكثر من الموافقة عليها، سلام يحقق لأعداء هذه البلاد ثلاثة أهداف رئيسه هي أنه يمول هذه الحركات لحرب إستنزاف طويلة ويعطل الإنتاج في البلاد طيلة الفترة الإنتقالية المتطاولة، ويفجر الأوضاع في كل أنحاء السودان مطالبين بنفس الميزات الإنفصالية التي فرضتها الحركات المسلحة.
*مكاسب الإستخبارات العالمية في بلادنا:*
في تقديري أن أكبر المكاسب التي حققتها الإستخبارات العالمية في بلادنا هي أنهم فرضوا علينا شروطهم بلا مفاوضات، حيث فرضوا علينا بعثة أممية قبيحة تسعى بالفتنة بيننا جهاراً نهاراً من غير حياء، وفرضوا علينا بإسم الدبلوماسية ضباط إستخبارات “سفراء” يجوبون عرض البلاد وطولها يسعون بيننا بالفتنة وفينا سماعون لهم، صعبوا علينا توحيد قواتنا الأمنية بدمج قوات الدعم السريع في الجيش السوداني، وحرموا علينا دمج قوات الحركات المسلحة إلا بشروط تضر بالبلاد ككل أكثر مما تصلحها.
ومن أهم ما حققوه من أهدافهم الإستراتيجية أنهم دمروا إقتصادنا، عطلوا أنتاجنا الرزاعي والصناعي، أوقفوا حركة نهضتنا، عطلوا التعليم في بلادنا، نشروا الإحباط، العطالة، المخدرات والشذوذ الجنسي وسط شبابنا بناة مستقبلنا، هتكوا نسيجنا الإجتماعي، أضعفوا وحدتنا الوطنية، أطالوا عمر الفترة الإنتقالية لأربعة سنوات وهم يطمعون في المزيد وذلك من خلال تخويف الكيانات السياسية والدول الإقليمية من عودة الإسلاميين إلى سدة الحكم في السودان عن طريق إنتخابات حرة نزيهة ومراقبة، وبعد كل هذا يسعون وبكل جد ومثابرة لإضاعة المزيد من وقتنا ليجدوا الزمن الذي يرتكبون فيه مزيد من الجرائم في حق هذا الشعب وفي حق شبابه من أجل قتل الشباب وإلصاق التهمة بالشرطة والجيش.
*أين المخرج الآمن إذن؟:*
السؤال الذي يفرض نفسه من خلال هذا المقال هو، أين المخرج الآمن إذن؟، فيما أرى أن هنالك العديد من المخارج الآمنة وسأحاول في الفقرات التالية أن أركز على أهم الخطوات الجوهرية التي يجب أن يشير بها الإستراتيجيين الذين يخططون للدول السودانية على قيادة البلاد بعد إخضاع الحلول لعصف ذهني جماعي يختاروا من خلاله أكثر هذه الحلول سلامة وأمناً.
في تقديري أن هنالك ثلاث خطوات جوهرية لا يستطيع أي مخرج أن يحقق أحلام هذا الشعب في الأمن والسلام والإستقرار والتقدم والرفاهية ما لم يراعيها وهي على النحو التالي:
*الخطوة الأولى* التي يجب أن تخطوها القوات المسلحة هي العودة للشعب السوداني الذي إنحازت له، فهو الركن الركين الآمن المستقر الذي تسنده يدُ الله ثم وحدة الجماعة، فالشعب هو صاحب المصلحة الحقيقية، لذلك هو من يدعم بقوة كل من يحقق له مصالحه ويؤمّْن معايشه، ويحارب كل من يضر بمصالحه ويعطل مسيرته ويؤثر سلباً على مستقبل بلاده المنتظر، وإن تجاهل هذا العامل هو المهلكة المؤكدة والضياع المُحتم وذهاب الريح المبين.
*الخطوة الثانية* هى تمسك الجيش بقوة بوحدة كل القوات النظامية من قوات مسلحة، قوات أمن ومخابرات، قوات شرطة، قوات دعم سريع وقوات الحركات المسلحة التي تقبل السلام العادل الذي يعزز وحدة البلاد وسلامة أراضيه، أما السلام الظلوم فإنة لا يزيد التمرد إلا عمراً وتعنتاً وطمعاً في الحصول على المزيد من السلطة بقوة السلاح.
*الخطوة الثالثة* هي الرفض القاطع لكل الحلول المستوردة ولو جاءت من خلال إتحاد المحامين، والإبتعاد من الحلول الإقصائية التي تنفرد بها الكتل السياسية، فإذا تعذر تحقيق الإجماع كما هو حادث الآن، فعلى الجيش السعى لتحقيق أكبر قدر ممكن من الإجماع، فإن تعذر هذا أيضاً يجب على الجيش فرض حكومة تصريف أعمال يسند لها مهام محددة تبتدئ بمعاش الناس وتنتهي خلال عام بإنتخابات عامة يتم تحديد تاريخها وإعلانها مع حكومة تصريف الأعمال التي يجب أن تكون حكومة تكنوقراط غير حزبية تتمتع بالإستقلالية والمهنية.
فالقوات المسلحة هي القوة الوحيد التي تملك حق قانوني ودستوري في إستلام مقاليد الحكم في البلاد لحين إجراء إنتخابات برلمانية عامة في البلاد، وليس لأي قوة سياسية مدينة أدنى مسوق قانوني أو دستوري يمنحها حف المشاركة في حكومة فترة إنتقالية، المسوق القانوني والدستوري الوحيد الذي يمنح القوة السياسية المدنية الحق في تكوين حكومة هو فوزها في إنتخابات حرة ونزيهة، والسلام.
بقلم الدكتور عبد الله الطيب علي الياس / خبير الحوكمة وإدارة المخاطر والرقابة
19/2/2023